الخميس، 28 أغسطس 2014

الوَصِيَّة


                            
  التَّواصِي بالحقِّ




 اعلم أخي -رحمك الله- أنه لا يسعني وإيَّاك وكلّ مسلم إلَّا إتِّباع ما كان عليه النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابُه، فإذا عَلِمتَ هذا فأعلم أنَّ أصحابَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمن بعدهم من أهلِ العلم والفضل قد اختلفوا في مسائل كثيرة (١)وما اختلفوا إلَّا ابتغاء الحقّ ،فإذا علمت كل هذا فاعلم أن الحق حقان(٢)
حقٌّ في نفسِ الأمرِ: وهو الحقُّ الذي عندَ اللهِ حقٌّ، وهو الحقُّ الذي يشهد به على الله، وهو الحق الموجودُ.   
 وحقٌّ في اعتقادِ مدَّعيه: وهو الحقُّ المقصودُ.
  أمَّا الأول: فيقتضي من كل مسلم علمه أربعة أمور:
 أوَّلًا- التزامه:

(١)  قال ابن القيم: ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات
والأفعال بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم .إعلام الموقعين (ص:٤٧)
(٢) قال شيخ الإسلام: (ج :١٥/ص:٢٤٨) الحق نوعان:
 حقٌّ موجودٌ: فالواجب معرفته والصدق في الإخبار عنه وضد ذالك الجهل والكذب.
وحقٌّ مقصودٌ: وهو النَّافع للإنسان فالواجب إرادته والعمل به وضد ذالك إرادة الباطل واتباعه.      


 ثانيا- ودعوة النَّاس إليه.
 ثالثا- ومحبَّةٌ ملتزمةٌ.
رابعًا- وبُغضُ مخالفه عالمًا (١)
       وهذا الحقُّ يستوي في مقتضى معرفته العلماءُ والعامَّة؛ لأنَّ التزامَه إسلامٌ والدعوةَ إليه تبليغٌ والحبَّ والبغضَ فيه إيمانٌ كلُّ ذلك بنصِّ القرآن. 
 أما الثَّاني: فهو حقُّ الخاصَّةِ والعامَّةِ لهم فيه تبع، ومقتضى معرفته كمقتضى معرفة الأول إلَّا الأخيران فإنَّه لا يقتضيهما بل يقتضِي محبَّة المخالف؛ لأنَّهُ فعل فرضه واتَّبع ما اعتقدَ أنَّه الحقُّ هذا للعالم والعاميّ إلَّا المقلدَ المتعصِّب فإنَّه يُنكرعليه لأنَّه يتبع من قلَّده وإن عرف أنه مخطئ.
١)    و البغض هنا يكون بقدر المخالفةِ مع بقاءِ الحبُّ العامّّ واجبًا له ما دام مسلمًا و لا منافاة بين أن يكون الشَّخصُ الواحُد يُرحَم و يُحَبُّ من وجهٍ و يعذَّبُ و يُبغَض من وجهٍ آخرَ. فإنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّة و الجماعة أنَّ الشخص الواحدَ يجتمعُ فيه الأمران خلافًا لما يزعمه الخوارجُ و نحوُهم من المعتزلةِ فإنَّ عندهم أنَّ من استحقَّ العذابَ من أهل القبلة لا يخرجُ من النَّار فأوجبوا خلودَ أهلِ التَّوحيد و قالوا: من استحق العذاب لا يستحق الثواب ابن تيمية: (ج١٥/٢٩٤)

ومن ضلَّ من المسلمين في الحقِّ الأوَّل فإنَّما ضلَّ من قِبل شهوته لأنَّه واضحٌ لا شبهةَ فيه وهو الذي عناه النبي -صَلى الله عليه وسلم بقوله-: «الحلال بين والحرام بين» بخلاف الحق المقصود الذي تعتريه الشهوات كما تعتريه الشبهات.
  فإذا علمت كل هذا فاعلم أنَّه لا يجوز للعاميّ أن يقوم في دعوة الناس لما يعتقد أنه الحقُّ مقام العالم(١) فإنَّ هذا شرٌّعظيمٌ وباله على الأمَّة وخيمٌ، وما بعضُ مصائب المسلمين اليومَ إلَّا منه، ولا ينكر على العالم مادام عاميًّا قولًا في حضرته أو عند غيره بقوله أو بقول أحد من العلماء فليس ذلك من الأدبِ، فإن فعل ذلك استحقَّ ما يستحقُّه كل مخالفٍ للأدب مع العلماء، قال ابن عبَّاس للرجل من بني تميم: "أتعلمني بالسنة لا أمَّ لك ". أخرجه مسلم(٢)

 (١)  قال ابن عبد البر في الجامع: لم يختلف العلماء أنَّ العامَّة لا يجوز لهم الفتيا.

 (٢) وربَّما اعترض معترض على هذا الكلام بشبهات كأن يقول مثلا إن موسى -عليه السلام- 
 اعترض على الخضر مع أنه ذهب معه ليتعلم منه أي أنه مقر بأنه أعلم منه بما يفعل؟ والجواب: أن موسى لم يكن أمّيا عامّيا بل كان عالما نبيًا وما اعترض به على الخضر علم فأين هذا من ذاك؟ !.وكذلك يجاب عن بعض ما كان يفعله عمر رضي الله عنه مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ- فإنَّ عمرًا كان عالمًا بل كان ممَّن يفتي النّاسَ والنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ- حي.

              وإيَّاك أخي في مقامك هذا من أربعةٍ: حلال، حرام، مستحبٌّ، ومكروه إلَّا ما كان من قبيل الحقّ الأوَّل والأدلَّةُ على ما كتبنا إليك كثيرةٌ من الكتاب والسُّنة ضاق المقام عن ذكرها ولعلك تعرف منها ما يدلُّك على ما ذكرنا.
واعلم أنّي إنَّما كتبت لك هذا تثبيتًا لي ولك على الحقِّ لمَّا رأيت كثيرًا من العامَّة ممن ينتمون للسنة يخلطون بين الحقَّين ممَّا أدَّى بهم إلى الخلط بين الفَتَوى والتَّبليغِ ولم يعلموا أنَّ الفتوى أصلُها إنشاءٌ و هي ملزمة بالمفتي وأنَّ التبليغَ أصلُه خبرٌ وهو لازمٌ بذاته فضلُّوا وأضلُّوا.
هذا حقُّكَ من التَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبر وإن استشكلت فيما كتبتُ إليك شيئًا فحقُّنا أن تكتبَ إلينا بما استشكلت ولا تنسى
 حقنا عليك من التَّواصي بالحقِّ
والتَّواصي بالصَّبر -والله المستعان!-
ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم




ولهذه الوصية شرحٌ ،وقد نظمها الشيخ مداني ابن ناجي الزريبي في نحو ثلاثين بيتا قال في آخره: 
وصـــــية للحق في عــــلاها  ─═☆☆═─  إخراجها للنور عن شعبان
قد صاغها نظما على القوافي ─═☆☆═─  وأرجز أبيــــاتها مـــــداني



                      أبو عبد الرحمن شعبان بن محمد الهلالي❖❖❖







ليست هناك تعليقات: