─═☆ الفَهْمَ ◆◇◆الفَهْمَ ☆═─
الحمد لله الذي علَّم وفهَّمَ حمدًا كثيرًا لما والى وأنعمَ وأشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله وحده لاشريك له وأشهد
أنَّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فاعلم أخي أنَّ صِحَّةَ
الْفَهْمِ وَحُسْنَ الْقَصْدِ مِنْ
أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، بَلْ مَا
أُعْطِيَ عَبْدٌ عَطَاءً بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ وَلَا أَجَلُّ مِنْهُمَا،
بَلْ هُمَا سَاقَا الْإِسْلَامِ، وَقِيَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَبِهِمَا يَأْمَنُ
الْعَبْدُ طَرِيقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ فَسَدَ قَصْدُهُمْ وَطَرِيقَ
الضَّالِّينَ الَّذِينَ فَسَدَتْ فُهُومُهُمْ، وَيَصِيرُ مِنْ الْمُنْعَمِ
عَلَيْهِمْ الَّذِينَ حَسُنَتْ أَفْهَامُهُمْ وَقُصُودُهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ
الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ
يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَصِحَّةُ الْفَهْمِ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ
الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ،
وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ.ابن القيم إعلام الموقعين
وصدق ابن القيم -رحمه الله تعالى-،ومُصدِّق ذلك كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه
محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال سبحانه: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١) أُولَئِكَ
لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢) ﴾ وقال:﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩) ﴾
عن إبراهيم ابن يزيد النخعي، قال: الحكمة: هي الفهمُ.ابن جرير
وقال شريك: "الحكمة":
الْفَهْمُ رواه الخطيب في الجامع.
وعن أَبي بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مِقْسَمٍ الْمُقْرِئُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ ثَعْلَبًا , وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ
اللَّهِ , تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا
كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩] قَالَ: «الْفَهْمُ» رواه الخطيب
في الفقيه والمتفقه
وعن ابن وهب، قال: قلت لمالك: وما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له. ابن جرير
عن هشام، عن الحسن في قوله: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ ، قال: الحسنة في
الدنيا: الفهمُ في كتاب الله والعلم. ابن جرير
وقال سبحانه عن داود: ﴿وَآتَيْنَاهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾
عن ابن عباس رضي
الله عنه: قال: أعطي الفهم. ابن جرير
وقيل في تفسير هذه الآيات
غير ماذكرنا.
وعن مُعَاوِيَةَ
رضي الله عنهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ
فِي الدِّينِ» متفق عليه
وعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ الخَلاَءَ،
فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءً قَالَ: «مَنْ وَضَعَ هَذَا فَأُخْبِرَ فَقَالَ
اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» متفق عليه
قوله: "يفقهه" يعني يجعله فقيها، قال مُحَمَّد عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ
الدينوري : " والْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ الْفَهْمُ , يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَفْقَهُ قَوْلِي ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ
لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤] ، أَيْ لَا تَفْهَمُونَهُ،ثُمَّ يُقَالُ لِلْعِلْمِ: الْفِقْهُ ، لِأَنَّهُ عَنِ الْفَهْمِ يَكُونُ ،
وَلِلْعَالِمِ: فَقِيهٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْلَمُ بِفَهْمِهِ،عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا كَانَ لَهُ
سَبَبًا. أخرجه الخطيب في الفقيه والتفقه
والفَهْمُ:مَعْرِفَتُكَ
الشَّيْءَ بِالْقَلْبِ. قاله في اللسان.
وقد كان السَّلف
-رضي الله عنهم- أحرصَ على الفهم منهم على العلمِ.
فعن مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ
الْبَقَرَةِ ثَمَانِي سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا. الموطأ
وَأَخْرَجَ
الْخَطِيبُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَعَلَّمَ عُمَرُ الْبَقَرَةَ فِي اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمَّا خَتَمَهَا نَحَرَ جَزُورًا.
وعَنْ أَبِي
جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ
مِنَ الوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ وَالَّذِي فَلَقَ
الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ
اللَّهُ رَجُلًا فِي القُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ»، قُلْتُ: وَمَا
فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: «العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ
مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» أخرجه البخاري
عن ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:"كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ، إِلَّا رَاجَعَتْ
فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ" أخرجه البخاري
قوله: لا تعرفه،يعني: لا تفهمه.
والفهم أكثر شيء أوصى به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
عَنْ أَبِي الْعَوَّامِ
الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: «إِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ
مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا
نَفَاذَ لَهُ.... الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَخَلَّجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ »رواه البيهقي والدَّارقطني وغيرها وصححه الألباني في
الإرواء والوادعي في الصحيح المسند
وَقَالَ أَبُو
إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعَتُ إِسْحَاقَ
بْنَ رَاهَوَيْهِ، يَقْولُ: كُنَّا بِمَكَّةَ وَالشَّافِعِيُّ بِهَا، وَأَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ بِهَا، فَقَالَ لِي َأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ،
جَالِسْ هَذَا الرَّجُلَ يَعْنِي: الشَّافِعِيَّ، قُلْتُ: مَا أَصْنَعُ بِهِ،
وَسِنُّهُ قَرِيبٌ مِنْ سِنَّنَا؟ أَتْرُكُ ابْنَ عُيَيْنَةَ وَالْمَقْبُرِيَّ؟ !
فَقَالَ: وَيْحَكَ! إِنَّ ذَاكَ يَفُوتُ، وَذَا لا يَفُوتُ، فَجَالَسْتُهُ. ابن أبي حاتم "آداب الشافعي ومناقبه"
وبسنده عن مُحَمَّد
بْن الْفَضْلِ الْبَزَّارَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: " حَجَجْتُ مَعَ َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَنَزَلْتُ فِي مَكَانٍ
وَاحِدٍ مَعَهُ، أَوْ فِي دَارٍ يَعْنِي بِمَكَّةَ، وَخَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
يَعْنِي َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ بَاكِرًا، وَخَرَجْتُ أَنَا بَعْدَهُ، فَلَمَّا
صَلَّيْتُ الصُّبْحَ دُرْتُ الْمَسْجِدَ، فَجِئْتُ إِلَى مَجْلِسِ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، وَكُنْتُ أَدُورُ مَجْلِسًا مَجْلِسًا؛ طَلَبًا لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
يَعْنِي َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، حَتَّى وَجَدْتُ َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ،
عِنْدَ شَابٍّ أَعْرَابِيٍّ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مَصْبُوغَةٌ، وَعَلَى رَأْسِهِ
جُمَّةٌ، فَزَاحَمْتُهُ حَتَّى قَعَدْتُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَقُلْتُ:
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، تَرَكْتَ ابْنَ عُيَيْنَةَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ مِنَ
الزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَزِيَادِ بْنِ عِلاقَةَ، وَالتَّابِعِينَ
مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ؟ ! ! فَقَالَ لِي: اسْكُتْ، فَإِنْ فَاتَكَ
حَدِيثٌبِعُلُوٍّ تَجِدُهُ بِنُزُولٍ، لا يَضُرُّكَ فِي دِينِكَ، وَلا فِي
عَقْلِكَ أَوْ فِي فَهْمِكَ، وَإِنْ فَاتَكَ أَمْرُ هَذَا الْفَتَى، أَخَافُ أَنْ
لا تَجِدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْقَهَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ، مِنْ هَذَا الْفَتَى الْقُرَشِيِّ.
قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ:
مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ "
وكان الشيخ محمد صالح العثيمين يقول دائماً: الفهم الفهم، الفهمُ كل العلمِ، وإن لم يكن الفهمُ العلمَ
فهو شطر العلمِ
وقد ذمّ الله
الذين لا يفهمون ولا يطلبون الفهم فقال سبحانه:﴿ أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ وقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا﴾ وقال فيمن يحفظ الكتب المنزلة من
السماء ولا يعلم أحكامها وحلالها وحرامها: ﴿وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَظُنُّونَ﴾ وذلك أنهم كانوا يحفظون التوراة ولا يعلمون ما استودع الله تعالى فيها من الحكم
والعبر، فوصفهم الله تعالى بأنه ليس عندهم من ذلك إلا أماني، والأماني: التّلاوة،
واحدها: أمنيَّة؛ قال الناظم:
تمنّى كتاب الله آخر ليلة ─═☆☆═─
تمنِّي داود الزبور المنزلا
وقال جل وعلا: ﴿قُلْ
يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
قال سفيان: " ليس في كتاب الله تعالى آية أشد عليَّ من قوله تعالى ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى
تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾، وإقامتها: فهمها والعمل بها ".
وقال سبحانه:﴿مَثَلُ
الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ
يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ ، فشبه تالي التوراة
من غير أن يفهمه بالحمار يحمل أسفارا.
قال الإمام أبو
بكر محمد بن الوليد الطرطوشى: فدخل في عموم هذا من يحفظ
القرآن من أهل ملّتنا، ثم لا يفهمه، ولا يعمل بما فيه، وفيه قال الناظم:
زوامـــل للأسفار لا علم عندهم ─═☆☆═─
بجيدها إلا كعلم الأبـــــاعر
لعمرك لا يدري البعير إذا
غدا─═☆☆═─ بأوساقه أوراح ما في الغرائر
فبئس مثل القوم.إ هـ
قال -رحمه
الله-: ومما ابتدعه الناس في القرآن الاقتصار على حفظ حروفه، دون التفقه فيه. إ هـ
يستكمل...
أبوعبد الرَّحْمَنِ شعبان الهلالي ❖❖❖