وجوب معرفة قدر النفس
الحمد لله الذي علَّم وفهَّم حمدا كثيرا لما والى وأنعم وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن من أكثر الأسباب التي تثير الشَّحناء والاختلاف بل
والعداوة بين النّاس هو جهل أكثرهم لقدر
أنفسهم،مع أن معرفة قدر النفس واجب، والدليل على الوجوب قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) ﴾
زَكَّاهَا: أي طهرها وأصلحها
دسَّاهَا: أي أغواها قاله مجاهد وقتادة وغيرهما من السلف
رضي الله عنهم.
قال أحمد بن فارس في "مقاييس اللغة": الْغَيْنُ
وَالْوَاوُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ بَعْدَهُمَا أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى
خِلَافِ الرُّشْدِ وَإِظْلَامِ الْأَمْرِ، وَالْآخَرُ عَلَى فَسَادٍ فِي شَيْءٍ.
فَالْأَوَّلُ الْغَيُّ، وَهُوَ خِلَافُ الرُّشْدِ، وَالْجَهْلُ
بِالْأَمْرِ، وَالِانْهِمَاكُ فِي الْبَاطِلِ. يُقَالُ غَوَى يَغْوِي غَيًّا. قَالَ:
فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا
يَحْمَدُ النَّاسُ أَمْرَهُ..وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا
وَالْأَصْلُ الْآخَرُ:
قَوْلُهُمْ: غَوِيَ الْفَصِيلُ، إِذَا أَكْثَرَ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ فَفَسَدَ جَوْفُهُ.
وَالْمَصْدَرُ الْغَوَى. قَالَ:
مُعَطَّفَةُ الْأَثْنَاءِ لَيْسَ فَصِيلُهَا ... بِرَازِئِهَا
دَرًّا وَلَا مَيِّتٍ غَوَى
واعلم يا عبد
الله أن التّطهير والإصلاح اللّازمان للفلاح إنما يحصلان باتباع الأمر ومعرفة
القدر وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وتمعّن يا عبد الله قصة إبليس مع ربنا
جلا وعلا تجد أنه ما ضل وما لعن إلا لأنه عصى الأمر وجهل القدر؛ عصى أمر ربه جلا
وعلا لما أمره أن يسجد لآدم فقال له رادا أمره﴿"أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا"﴾ وجهل
القدر لما ظن أنه أعلى قدرا من آدم عليه السلام فقال: ﴿"أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ"﴾ فاستحق
اللعن والطرد على خلاف الأمر وجهل القدر
وقد ألف أحمد بن محمد
بن مسكويه (المتوفى: 421هـ) كتاب "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" قال في
ديباجته:
غرضنا في هذا الكتاب
أن نحصل لأنفسنا خلقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة
فيها ولا مشقة ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي والطريق في ذلك أن نعرف أولا نفوسنا
ماهي وأي شيء ولأي شيء أوجدت فينا، أعني كمالها وغايتها وما قواها وملكاتها التي إذا
استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العلية وما الأشياء العائقة لنا
عنها وما الذي يزكيها فتفلح وما الذي يدسّيها فتخيب فإن الله عز من قائل يقول: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا
سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) ﴾
واعلم يا عبد
الله أن معرفة قدر النفس ليس شيئا تقوله أو تدعيه وإنما هو شيء تعيشه وتعمل به تشهد
به على نفسك ويشهد لك به غيرك كما كان السلف الصالح رضي الله عنهم.
ألا وإن مما يجب عليك في معرفة قدر نفسك أيها
المسلم ألا تذل نفسك ولا تهينها ما دمت مؤمنا لأحد من الناس إلا لمؤمن.
قال جلا وعلا:﴿ وَلَا
تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾وقال:﴿
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
وقال:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ
لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(54) ﴾
يخطئ كثير
من الناس عندما يظنون كل ذل تواضعا وكل عجز وجبن عفوا وحلما وجهلوا أن التواضع لا
يكون تواضعا إلا إن كان للمؤمنين وإلا فهو ذل وهوان كلام رب العالمين: ﴿ أذلة على
المومنين أعزة على الكافرين﴾ والعفو والحلم لا يكون عفوا وحلما إلا
إذا كان عن مقدرة وإلا فهو جبن.
كريم له وجهان وجه لدى الرّضا ...
أسيل، ووجه في الكريهة باسل
وليس بمعطي العفو عن غير قدرة ...
ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل
قال الدينوري: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، نا أَبِي، عَنِ ابْنِ السَّمَّاكِ: أَنَّ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ عَظِيمَ الْقَدْرِ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ
طَالَبَ رَجُلا بِذَحْلٍ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ، فَلَمَّا ظَفَرَ بِهِ؛
قَالَ: لَوْلا أَنَّ الْمَقْدِرَةَ تَذْهَبُ بِالْحَفِيظَةِ؛ لانْتَقَمْتُ مِنْكَ.
ثُمَّ تَرَكَهُ. والذَّحْل: الثأْر.
وقال البخاري في صحيحه: باب
الانتصار من الظالم لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا
مَنْ ظُلِمَ، وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 148] ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾
[الشورى: 39] قَالَ إِبْرَاهِيمُ: «كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا
قَدَرُوا عَفَوْا»
فما بال ناس من المسلمين
يشيعون بين الناس أخلاقا ليست من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ولا من أخلاق السلف الصالح رضي الله عنهم.
قال ابن الجوزي: أنبأنا ابْن ناصر نا أَبُو الفضل السهلكي نا أَبُو علي عَبْد اللَّهِ بْن إبراهيم
النيسابوري ثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيّ بْن جهضم ثنا أَبُو صالح الدامغاني عَنْ الْحَسَن
بْن عَلِيٍّ الدامغاني قال: كان رجل من أهل بسطام
لا ينقطع عَنْ مجلس أبي يَزِيد لا يفارقه فَقَالَ لَهُ ذات يوم يا أستاذ أنا منذ ثلاثين
سنة أصوم الدهر وأقوم الليل وَقَدْ تركت الشهوات ولست أجد فِي قلبي من هَذَا الذي تذكره
شيئا البتة فَقَالَ لَهُ أبو يزيد لو صمت ثلاثمائة سنة وقمت ثلاثمائة سنة وأنت عَلَى
مَا أراك لا تجد من هَذَا العلم ذرة قَالَ ولم يا أستاذ قَالَ لأنك محجوب بنفسك فَقَالَ
لَهُ أفلهذا دواء حتى ينكشف هَذَا الحجاب قَالَ نعم ولكنك لن تقبل قَالَ بلى أقبل واعمل
مَا تقول قَالَ أَبُو يَزِيد اذهب الساعة إِلَى الحجام واحلق رأسك ولحيتك وانزع عنك
هَذَا اللباس وابرز بعباءة وعلّق فِي عنقك مخلاة واملأها جوزا وأجمع حولك صبيانا وقل
بأعلى صوتك يا صبيان من يصفعني صفعة أعطيته جوزة
فَقَالَ يا أبا يَزِيد سبحان اللَّه تقول لي مثل هَذَا ويحسن أن أفعل هَذَا؟
فَقَالَ أَبُو يَزِيد قولك سبحان اللَّه شرك قَالَ وَكَيْفَ؟ قَالَ لأنك عظمت نفسك
فسبحتها فَقَالَ يا أبا يَزِيد هَذَا ليس أقدر عَلَيْهِ ولا أفعله ولكن دلني عَلَى
غيره حتى أفعله فَقَالَ أَبُو يَزِيد ابتدر هَذَا قبل كل شيء حتى تسقط جاهك وتذل نفسك
ثم بعد ذلك أعرفك مَا يصلح لك قَالَ لا أطيق هَذَا قَالَ إنك لا تقبل.
قَالَ ابن الجوزي رحمه اللَّه: قلت ليس فِي شرعنا بحمد اللَّه من هَذَا شيء بل فيه تحريم ذلك والمنع
مِنْهُ وَقَدْ قَالَ نبينا عَلَيْهِ الصلاة والسلام: "ليس للمؤمن أن يذل
نفسه" ولو أمر بهلول الصبيان أن يصفعوه لكان قبيحا
فنعوذ بالله من هذه العقول الناقصة.
والحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق